القنوت
القنوت في اللغة يُطلق على معانٍ عدّة: الدعاء والطاعة والسكون والقيام في الصلاة، والإمساك عن الكلام، وذُكِرت له معانٍ أخرى كالخشوع، والعبادة، والقيام، قال الجوهري: القنوت الطاعة1. بناءً عليه فالقنوت يعني الطاعة مع الخضوع، كما جاء في خطاب المولى تعالى لمريم: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾2. والقنوت في الصلاة هو الدعاء أثناء الصلاة في الركعة الثانية، وهو سنّة كما ورد في الروايات. قال الإمام الصادق في تفسير الآية: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلً﴾: إنّ التبتُّل هو رفع اليدين في الصلاة (للدعاء)3. والتبتّل في اللغة يعني الانقطاع إلى الله تعالى وحده وقطع الرجاء من غيره، فكأنّه يقول بلسان حاله لمحقّق رجائه وآماله: انقطعت إليك وحدك لما أنت أهله من الألوهية4.
يوصينا القرآن الكريم، فيقول: ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾5. قال الإمام الرضا عليه السلام: "إنّما تُرفع اليدان بالتكبير، لأنّ رفع اليدين ضرب من الابتهال والتبتُّل والتضرُّع فأحبّ الله عزّ وجلّ أن يكون العبد في وقت ذكره متبتلًا متضرّعًا مبتهلًا، ولأنّ في رفع اليدين إحضار النية وإقبال القلب"6. فالإنسان الفقير والمحتاج يرفع يديه إلى السماء، ويتوجّه إلى الربّ الغنيّ، ويطلب حاجاته منه وحده، ويقطع قلبه عمّن سواه.
صحيح أنّ القنوت في الصلاة كلّها مستحبّ، غير أنّ أئمة أهل البيت عليهم السلام أكّدوا على الإتيان به وأوصوا الناس بذلك، ففي رسالة للإمام الرضا عليه السلام كتبها إلى المأمون في شرائع الدِّين قال عليه السلام: "والقنوت سنّة واجبة في الغداة والظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة"7. ومراد الإمام من وصف هذه السنّة بالواجبة هو التأكيد على هذه السنّة وأهميتها. والجدير ذكره هنا، أنّ المصلّي في حال نسي القنوت قبل الركوع، فمن المستحبّ الإتيان به بعد الركوع قضاءً، وإذا تذكّر أثناء السجود، فإنه يقضيه بعد السلام.
ورد في آداب القنوت: أنّه يُستحبّ رفع اليدين فيه تلقاء وجهه مبسوطتين، يستقبل ببطونها السماء، وبظهورها الأرض، ويجمع أصابع يديه ما عدا الإبهام، فيفرق به عن الأصابع، ويُستحبّ النظر إلى الكفّ حال القنوت، ورفع الصوت بالدعاء على أن لا يسمعه إمام الجماعة8. أمّا بالنسبة إلى الدعاء أثناء القنوت، فللمصلّي أن يقرأ أي دعاء شاء، إذ ليس هناك دعاء خاصّ بالقنوت، وليس بالضرورة أن يكون باللغة العربية، ويمكنه أن يطلب حاجاته، ويدعو لنفسه وللمؤمنين و... غير أنّ الأولوية والفضيلة في القنوت لقراءة القرآن والأدعية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام.
القنوت في الصلوات الأخرى:
عدد القنوت في الصلوات المختلفة ليس واحدًا، فالصلوات الخمس الواجبة، في كل صلاة قنوتٌ واحدٌ في الركعة الثانية وقبل الركوع، أمّا صلاة الجمعة وهي ركعتان، ففيها قنوتان، الأوّل قبل الركوع في الركعة الأولى، والثاني بعد الركوع في الركعة الثانية. وأمّا صلاة عيدي الفطر والأضحى، فهي ركعتان وتسعة قنوتات (خمسة متوالية) قبل الركوع في الركعة الأولى أربعة متوالية، في الركعة الثانية. بالطبع ورد لقنوت صلاة العيدين دعاءٌ خاص. والقنوت في صلاة الآيات، وهي ركعتان، في كلّ ركعة ركوع خمس مرّات، ويستحبّ القنوت فيها قبل الركوع (الثاني، والرابع، والسادس، والثامن، والعاشر) علمًا أنّ قنوتًا واحداً قبل الركوع العاشر يجزي. والقنوت في صلاة الوتر (وهي آخر ركعة من صلاة الليل) يستحبّ للمصلّي أن يطيل القنوت فيها. وقد ورد في ذلك أدعية كثيرة، منها أن تقول: (70 مرّة أستغفر الله ربّي وأتوب إليه) و(300 مرّة العفو) والدعاء لأربعين مؤمنًا. أمّا صلاة الاستسقاء، فهي كصلاة العيد، في الركعة الأولى يقنت المصلّي خمس مرّات، وفي الثانية أربعة.
على أنّه يُستحبّ للمصلّي أن يُطيل القنوت، فعن الإمام الصادق عليه السلام عن أبي ذرّ سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّ الصلاة أفضل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: طول القنوت، وقال: أطولكم قنوتاً في دار الدنيا أطولكم راحة يوم القيامة في الموقف"9.
قنوت أولياء الله (المعصومين):
جاء في الخبر أنّ سبب إسلام عبد الله بن مسعود ما رآه من صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام وخديجة وقنوتهم في مكة عند الكعبة10.
نقرأ في زيارة آل ياسين: "السلام عليك حين تُصلّي وتقنت"، وهو السلام المقصود به الإمام صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف. كما وينقل عن أئمة أهل البيت أدعية مطوّلة في القنوت، لا يسعنا إيرادها في هذا الكتاب11، لكن كلّ العجب أنّ المسلمين قد عطّلوا هذه السنّة مع عظيم بركاتها وأهمّيتها، وقد ورد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وجميع الصحابة كانوا يقنتون أثناء الصلاة، ألم يكن عليّ عليه السلام وجميع الخلفاء يقنتون؟!12.
من المستحبّ المؤكّد أن يدعو المؤمن في قنوته لغيره من المسلمين، ولا يُفكِّر فقط في نفسه وحاجاته، فهذه سيّدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات بأسمائهم. قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام: رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم وتُكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: "يا بنيّ الجار ثم الدار"13. والله تعالى وعد المؤمنين، أنّه من دعا لغيره من المؤمنين، استجاب الله لحاجاته أيضاً.
في ختام البحث عن القنوت، نُشير إلى أنّه يجوز للمؤمن أن يدعو في قنوته على الكفرة والمنافقين. فكما أنّه يجوز الدعاء للمؤمنين، كذلك يجوز الدعاء على الكافرين، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا في قنوته لقوم بأعيانهم، وعلى آخرين بأعيانهم. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "... نعم فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قنت ودعا على قوم بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم، وفعله عليّ عليه السلام من بعده"14.
* كتاب شرح الصلاة.
1- انظر: بحار الأنوار، ج 82، ص 195.
2- سورة آل عمران: الآية 43.
3- وسائل الشيعة، ج 4، ص 912.
4- انظر: مفردات الراغب، كذلك: ابن فهد الحلّي، عدة الداعي، ص 184.
5- سورة الأعراف: الآية 55.
6- وسائل الشيعة، ج 4، ص 727.
7- بحار الأنوار، ج 82، ص 197.
8- انظر: مسائل القنوت في توضيح المسائل، وبحار الأنوار، ج 82، ص 204، وكذلك: الميرزا القمي، غنائم الأيام، ج 3، ص 39: "آداب القنوت".
9- بحار الأنوار، ج 82، ص 199. وأمالي الصدوق.
10- بحار الأنوار، ج 38، ص 280.
11- انظر: بحار الأنوار، وسائل الشيعة، الكافي وغيرها من الكتب والمراجع.
12- انظر: بحار الأنوار، ج 82، ص 200.
13- علل الشرائع، ج 1، ص 182، باب 145. وروضة الواعظين، ص 329.
14- بحار الأنوار، ج 82، ص 202.